لا سرية في الماسونية

بقلم السامي الإحترام جوزف أبو زهره

اعداد الفرد لخدمة المجتمع

قد يظن البعض ان الماسونية جمعية سرية تعمل في الخفاء وبمعزل عن الناس وقد نشر احد كبار رجالات الماسون يقول : ان اعتبار الماسونية جمعية سرية نوع من الاضاليل التي تنشرها الاحزاب الرجعية في محاربتها لجماعة تقوم بأعمل التجديد والتقدم والنهوض.

فالماسونية ليست بجمعية سرية كما يتوهمون ويوهمون، ويستحيل ان تكون كذلك ورجالها العاملون معروفون، وأبنتيها مشيدّة في اكبر الاحياء يؤمها الناس من جميع الطبقات، وأنظمتها وكتبها مطبوعة تجدها في سائر دور الكتب ويسهل عليك اقتناؤها او على الاقل الاطلاع عليها،  وقرارات محافلها تعلن فتنتج اثرها وفي كل يوم تظهر لها مناقب جليلة في خدمة الانسانية بسعيها المتواصل في هدم الفوارق بين الناس وتحريرهم من كل استعباد.

وانني لا انكر ان الماسونية نشأت سرية وان اعضائها الاولين كانوا مضطرين الى الاجتماع في الخفاء. فقد كانت الاجتماعات محرومة من الحرية وخطرة على الهيئات المستبدة التي تحكمت في الشعوب قبيل القرن التاسع عشر،  غير ان الماسونية جاهدت جهاداً عظيماً لتحرير الشعوب، فلما نالت حرية الاجتماع وجميع انواع الحريات الدستورية العامة، اصبح من العبث ان يتحمل الماسونيون ضغط الحياة الخفية، ومنذ القرن التاسع عشر بدات المحافل الماسونية بالظهور الى العلن.

وبالطبع يوجد في الماسونية اسرار قد تخفى على الماسونيين انفسهم، ويرجع السبب في ذلك الى ان الماسونية مؤسسة على التعاليم الرمزية، ولا ينكشف المعنى الاخير لهذه الرموز لمن يدخل في الماسونية الا تدريجيباً حسب نضوج العقل وتقدم الفكر.

فالماسونية اذاً، ليست كما يتوهم البعض جمعية خيرية، ان البنائين الاحرار يقومون في الواقع باعمال خيرية واسعة النطاق مختلفة الاغراض عديدة الوسائل.

كما وان الماسونية ليست بجمعية تعاونية، وانما على الماسونية واجب التعاضد والتآزر كما وان عليهم فرضاً مقدساً ان يسندوا اخاهم ويواسوه عند كربته ولا يتركوه وحيداً أعزل امام الدهر، ولكن هذا التعاون ليس من الاغراض الجوهرية للماسونية، وانما هو طريق طبيعي للتضامن بين افراد العشيرة اساسها الحب الانساني ودفع الشرور والجهل وعدوان الظلم والاستبعاد.

الاهداف الاولية للماسونية

تعمل الماسونية لاعداد الفرد لأن يكون انسان صالح لخدمة الوسط الذي يعيش فيه والانسانية بمجموعها، وتبدأ بتحرير عقل الفرد والاوهام والخرافات التي تلصق به من جراء فعل تربية ناقصة او وسط اجتماعي متأخر.

وتواصل سعيها في تنظيم جهوده ليصبح جندياً يفهم ميزة الطاعة الاختيارية والاساليب التعاونية الانسانية، ثم قائداً منظماً للصفوف ومديراً لحركات الجماعات يوجهها في الطريق الموصل الى عمل الخير ومساعدة الانسان.

ومن كل ما تقدم، يتضح ان الاغراض الاولى للماسونية، هي تربية النفس وتهذيب الفكر ومحبة الناس بعضهم لبعض والابتعاد عن الشر والنهي عن المنكر.

كما انها ترفض غير المعقول، وتشمل في الوقت نفسه ملكات النفس في جميع مظاهرها المختلفة وتشمل ملكة التفكير، التفكير العلمي، بوسائله الحديثة، لا التفكير العقيم المؤسس على امور واصول وهمية يعتبرها الانسان حقيقة بديهية غير قابلة لان تحك بمحك النقد، فأقل ضرر ينتج للإنسان من هذا النوع المتأخر من التفكير اضطره الى التدرج من هذه الاصول العقيمة الى قضايا فرعية تؤثر اثراً سيئاً في ملكة التفكير وفي الحياة العملية، وقد يعجز العقل عن التخلص من شبح تلك المبادئ الاولية التي دخلت في ذهنه دون تفكير ولا تمحيص.

وتشمل ايضاً ملكة الارادة،فالماسونية تسعى في تربيتها كميزة من ميزات الشخصية الانسانية المحررة، والماسونية تقدر ا صحاب الارادة القوية كما انها تدرك خطر السلبيين الذين يأتي منهم الضرر البليغ متى تسلطت على ارادتهم اوهام فاسدة تقودهم مع تيار الشر، فان الارادة تحتاج الى تربية لا تقل صعوبة عن تربية الفكر.

كذلك تسعى الماسونية في تربية ملكة العاطفة، فإن العقل وحده عاجز عن ان يدفع الانسان الى العمل، فيجب ان يكون العقل مقروناً بالعاطفة التي هي المحرك الاول للارادة، فاذا كانت العاطفة شريفة،  تدفع بالانسان الى العمل الطيب، اما اذا تسلطت على الانسان العاطفة المنحطة السافلة، قذفت به نحو  اسفل درجات الجهل والانحطاط.

الاحساس في الحب والفضيلة

ان الاحساس هو المحرك الذي يؤثر في الانسان، فهي ميوله وينظم اخلاقه فالماسونية لا تخاطب العقل مجرداً من الشعور،  بل تسعى ان تزرع بذور الشرف والفضيلة، وتدفع بالناس نحو الاستقامة وتربي الامانة وعواطف النخوة والشهامة، وتعتبر الماسونية الحب الشريف اساس الفضيلة، اذ هو في الطبيعة الجاذبية بين الذرات التي تحركها، وتوجد بينها انواعاً من الحياة البسيطة فتتقارب وتنمو فتصبح كائنات.

والحب – او الجاذبية في الاصطلاح العلمي–  يربط الاجرام السماوية، و ينظم حركاتها الدقيقة البديعة وهو سر السعادة و الهناء، يطّهر القلوب ويوجد فيها الفضيلة والشعور والميل الى انواع الفنون، فاذا انعدم الحب الشريف الطاهر، ظهرت الشرور وساد الفساد، وتخادع الناس وتحاربت الشعوب واستخدمت العقول والعلوم للاضرار والتنكيل، فيتحكم القوي ويستغل الضعيف دون ان يقام وزن للمبادئ والعدل، فيجب على الانسان ان يمكّن من نفسه، حب نفسه، وحب عائلته، وحب وطنه، وحب الانسانية، والاخلاق السامية، والاستقامة والنخوة والامانة، ونصرة الضعيف، ومقاومة التعسف.

فان طريق الماسونية في التأثير الاجتماعي، هو الحث على التطور النشيط المقرون بالنظام وبالثبات وبالمثابرة، وفي هذا  الطريق المعقول تصطدم الماسونية مع خصمين لدودين :

اولهما، الرجعيون الجامدون سياسياً المقاومون لكل تقدم، وهم لا يشعرون بحركة الاجتماع المستمرة النمو،  ويقفون في سبيل مطامعهم وغاياتهم عند حد نظم بالية هرمة يرون من مصلحتهم التمسك بها لحفظ ما يتمتعون به من جاه وعظمة وامتيازات، وسلاحهم التقاليد والعادات والمال، وهؤلاء يكرهون الماسونية لانتشارها في مختلف الاوساط وقوة تأثيرها في اعماق القلوب. فهم يشهرون اسلحة الضلال والكذب والقذف والنفاق الى ان تظهر الايام الحقائق الناصعة فتزهق الاباطيل.

 والخصم الثاني للماسونية، هم المتطرفون الثوريون فهم لا يحلمون، ولا يلّذ لهم الا اشعال نار الثورة، وهدم النظم القائمة، من غير ان يفكروا في نتائجها وجواز اصلاحها واجتناب ما تجره من سفك دماء، وتضحية المعتدلين والعقلاء والابرياء، وسيطرة المسرفين في الوعود الكاذبة، والمخاطرة بحيوية الشعوب، والتقهقر بها في النهاية الى نظم اشد رجعية من النظم المغضوب عليها.

فالماسونية، تحض اعضاءها على ان تتخذ طريق الاصلاح والاعتدال بين الرجعيين والثوريين، وهذا هو الطريق الطبيعي، فإن الطبيعة لا تعرف الوقوف،  وكل وقف في الطبيعة معناه الموت.

والانسان في حياته الفردية، جزء من الطبيعة تابع لقوانينها الصارمة، فاذا انقلبت نظمه فجأة،  زال توازن محتمعه وأصابته الفوضى، كما لو توقفت شرائعه عن النمو والترقي حسب مقتضيات الزمن، تأخر الاجتماع وتحللت عناصره الحية.

نزعات مختلفة

هنالك نزعات مختلفة بين الماسونيين، وقد يستنتج من هذا القول ان الماسونيين غير متفقين فيما بينهم على التعريف الصحيح للماسونية.

ولا اكتم سراً اذا قلت ان هناك خلافاً في النزعة بين المحافل،  ولكن الاصل واحد لا يتغير. والسبب في الخلاف، ان الماسونية وضع انساني، تابع لتطور جميع الاوضاع الانسانية، فهنالك  اختلاف الطرق كما مرّ ذكره واختلاف الشروق والنتيجة لا يعلمها الا الله.

ولكن ما نعتقده، هو ان الماسونية ضرورية لنوازع المجتمع، ونعتبرها حلقة الاتصال بين القديم الجاف والحديث الثائر. فهي قائمة ما دام الناس جامدين ينظرون الى الوراء ولا يتحركون وثائرين يقفزون الى الامام قفزات متواصلة سريعة، ويمكن ان تكون خطرة على القافزين وعلى المجتمع، وانك لتدرك اثر هذه النزعات المختفلة في مؤلفات الكاهن “اوليفر”،  وهي تختلف تمام الاختلاف عن نزعة  فولتير الذي لا يهمه ان يعتقد بأي مذهب، ونزعة “هلفيسيوس”  وهو مادي من الفلاسفة الماديين (وهي توفق كما قال اندرسون سنة ١٧۲۳) بين اخوان مختلفي الاجناس والنزعات والمذاهب، وكما ان الماسونية تجتهد ان يكون اعضاؤها رجال خير، كذلك هي تجتهد ان يكونوا عاملين مخلصين لأديانهم.

 يقول الكاتب (اميل داروتي ):

ان الماسونية عهد بين الامم على البر والتقدم، اساسها حب الحقيقة والعدل والاعتراف بقوانين الرقي العاملة للانسانية، ومبادئ الحرية والمساواة والاخاء، وتبادل الاحترام النفسي بين الناس وتضامنهم الاجتماعي، باحثة وراء الحقيقة من علم وفن وخلق غرضها الوصول الى الحق والخير والجمال، ونشرها بين الناس مع تحسين حالتهم الادبية والاجتماعية.

ان الماسونية تعتبر الحرية في الاعتقاد، كحق مطلق للانسان يستعمله بلا زيادة ولا نقصان، كما وانها لا تنظر الى العقيدة ولا الى جنسية اعضائها او طبقاتها الاجتماعية، وباسم الله مبدع الكون الاعظم، تعلن اعترافها بالاصل الاول للكائنات تاركة لافرادها الحرية التامة في الاعتقاد وتكييف طبيعة هذا الاصل الاول.

وهنالك ماسونيون يبيحون الابحاث الفلسفية والتاريخية والعلمية اباحة مطلقة ما دامت ابحاثهم بعيدة عن كل نزعة تحزبية ؟

قال “اوسوالد ويرث”، اعتاد رؤساء المحافل سؤال الزائر لمحافلهم :

 من اين انت قادم ؟ وهذا السؤال لا يؤخذ بظاهره، بل يجب اعتبار معناه الخفي : فيجب على المبتدئ في الماسونية، ان يعلم اصل الانسان، ويعبّرون عن ذلك بمكان قدومه، كما يجب على الشغال ان يعلم ما هو الانسان وطبيعته، وعلى الاستاذ ان يعرف مصير الانسان ونهايته.

وهذه مسائل فلسفية علمية ودينية، وقد نحا هذا النحو،  الاخ “جو وست” في كتابه عن تاريخ الشرق الاعظم الفرنسي، وعرّف الماسونية بقوله، ان غرض الماسونية تحسين حالة الانسان الادبية والمادية، مبدؤها الاعتراف بقوانين الرقي الانسانية وبالقواعد الفلسفية القاضية بالتسامح وبالاخاء والحرية والمساواة، دون النظر الى العقيدة المذهبية والاختلافات الوطنية، او  الامتيازات الاجتماعية، وهي ليست بجماعة سرية لانها تعلن حيث تكون غير مضطهدة، قوانينها وانظمتها وميولها واعمالها واسماء اعضائها، وتاريخ ومحل اجتماعاهم وقد اخذ “جو وست” بنظرية المحفل الاكبر الهولندي القائلة بان الرموز وتفسيرها هي الشيء الوحيد السري في الماسونية.

Like & Share